|
قد يبدو بناء مجمع سكني أمراً مألوفاً، من شراء الأرض والحصول على التراخيص إلى وضع الأساسات وتركيب التجهيزات، وتخطيط المساحات الخضراء والملاعب وهكذا، لكن ماذا لو أخبرتك إن بناء مركز بيانات عالمي واحد فقط في المملكة العربية السعودية يُعد إنجازاً ضخماً بذات القدر، بل وربما يفوقه تعقيداً بكثير؟ بالتالي، لا يمكن اختزال تشييد مركز بيانات متطور وفق أعلى المعايير التقنية، سواء في المملكة أو أي دولة أخرى، في إنشاء مجموعة بنايات أو بناء بعض الجدران؛ فهي عملية ضخمة عالية التكلفة وتتطلب استثمارات هائلة. وفي إطار رؤيتها 2030، أطلقت المملكة في مايو الماضي شركة هيوماين فينتشرز (Humain Ventures)، المملوكة بالكامل لصندوق الاستثمارات العامة (PIF)، برأسمال يناهز 10 مليار دولار لتتولى تحديدا الإشراف على الإدارة المعقدة لمشاريع إنشاء مراكز البيانات، بدءاً من العاصمة الرياض. سيُنفذ المشروع الضخم بالشراكة مع شركات عالمية رائدة في مجالات التقنية والذكاء الاصطناعي، في مقدمتها إنفيديا (Nvidia) و أدفانسد مايكرو ديفايسز (AMD) و كوالكوم (Qualcomm) و سيسكو سيستمز (Cisco Systems)، فضلاً عن إجراء محادثات أولية مع شركة إكس إيه آي (xAI) المملوكة لإيلون ماسك. تخطط هيوماين لإضافة قدرة مراكز بيانات تبلغ 1.9 جيجاواط بحلول 2030. ولوضع هذا الرقم في منظوره الصحيح، فإن هذه السعة تعادل تقريباً الاستهلاك الكلي للطاقة لمدينة عالمية كبرى. ويتناول هذا التحليل ما يتطلّبه بناء مركز بيانات واحد في المملكة فعلياً، من الفكرة إلى التشغيل الكامل.  🔎 حجر الأساس الرقمي للذكاء الاصطناعي اعتمدت السعودية نموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP) لتطوير مراكز البيانات. ويشبه إنشاء مركز بيانات في الرياض مشروعاً عقارياً تقنياً متكاملاً ، حيث يُعد اختيار المطور العقاري المناسب، أو المطور الرقمي في هذا السياق، خطوة أولى بالغة الأهمية. في هذه الحالة، يتعين أن يجمع مطور العقارات الرقمية بين خبرات مختلفة في مجالات الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الرقمية وتكامل الشبكات وأنظمة التبريد وإدارة الطاقة، لضمان مطابقة مركز البيانات لأعلى المواصفات التقنية وقدرته على التوسع وتلبية الاحتياجات التشغيلية بصفة مستمرة. تُقدَّر النفقات الرأسمالية لبناء أول مركز بيانات في الرياض بنحو 2.5 مليار ريال (670 مليون دولار). وفي فبراير الماضي، أبرمت الهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية مدن اتفاقاً مع أحد المطورين الرقميين لتأجير أرض المشروع في المدينة الرقمية شرق الرياض بمساحة 55 ألف متر مربع. وبناءً على تقرير متخصص صادر في أبريل 2025 عن ماكنزي أند كومباني (McKinsey & Company) بعنوان تكلفة الحوسبة، يمكن تقدير التكلفة المرتبطة شراء أو تأجير الأرض ومرحلة التطوير بالنظر إلى أن نفقات الأرض والتطوير ذات الصلة، والتي تشكل عادةً حوالي 15% من إجمالي النفقات الرأسمالية. وهذه النسبة تغطي ليس فقط مدفوعات الإيجار في حالة مركز بيانات الرياض، بل تشمل أيضاً تكاليف تهيئة الموقع وتطوير البنية التحتية وشراء المواد اللازمة لتجهيز الأرض لبناء مركز البيانات. وبتطبيق هذه النسبة، تُقدر تكاليف الأرض والتطوير بنحو 375 مليون ريال من إجمالي النفقات الرأسمالية البالغة 2.5 مليار ريال. تُشكل البنية التحتية لتوليد الكهرباء ونقلها جزء آخر بالغ الأهمية من النفقات الرأسمالية، والتي تُمثل ما يقرب من 25% من إجمالي النفقات الرأسمالية لمراكز البيانات، وفقا لتقديرات ماكنزي، أي ما يعادل تقريباً 625 مليون ريال في حالتنا. على الرغم من انخفاض تعرفة الكهرباء في المملكة فعلياً، إلا أن هذا المخصص المالي يعكس أهمية بناء مرافق توليد ونقل كهرباء ضخمة، وربما متخصصة، قادرة على تلبية الطلب المرتفع والموثوق على مراكز البيانات، خاصةً في ما يتعلق بالتبريد والتشغيل المتواصل من مناخ شديد الحرارة خاصة في فصل الصيف. ⁉️ المعماريون الرقميون ينطوي دور المطور الرقمي في هذا النظام المعقد على شعور هائل بالمسؤولية. من هنا، نستلهم بعض الأفكار من مقابلة الرئيس التنفيذي لشركة كور ويف (CoreWeave) مع وكالة بلومبرج، وهي شركة أمريكية للحوسبة السحابية مدعومة جزئياً من إنفيديا، ومسجلة في ناسداك بقيمة سوقية بلغت 61 مليار دولار وقت كتابة هذا التحليل في 21 أكتوبر، 2025. تحدث الرئيس التنفيذي لشركة كور ويف عن التحديات التي تواجه تطوير مراكز الحوسبة العملاقة، حيث تتداخل عشرات الآلاف من الوصلات الدقيقة التي تتطلب تخطيطاً هندسياً محكماً وفهماً عميقاً للتفاعل بين الأجهزة والمكونات المادية والبرمجيات. فخلل واحد يمكن أن يوقف نظام بأكمله، ويستدعي اتخاذ إجراءات لإعادة التشغيل من شأنها استنزاف الوقت والموارد، ما قد يعرض سير العمليات الحيوية للخطر. كما أشار الرئيس التنفيذي إلى أن كفاءة المطور الرقمي تتجلى في ضمان تناغم جميع المستويات التقنية المتطورة، بدءاً من اتصالات الأجهزة الأساسية وحتى البرامج الداعمة وتعاون العملاء، بحيث تعمل جميعها بانسيابية لضمان العمل دون انقطاعات.  🔦 تمويل مراكز البيانات بنموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص وفق نموذج التمويل الذي تعتمده شركة كور ويف، الرائدة عالميا في بناء مراكز البيانات، يضمن المطور الرقمي تأمين القروض أو التسهيلات الائتمانية بناءً على قيمة التدفقات النقدية المستقبلية من العقود طويلة الأجل المبرمة مع جهات وكيانات موثوقة تحظى بتصنيف ائتماني مرتفع (AAA)، مثل صندوق الثروة السيادي السعودي، على سبيل المثال. ولأن تدفقات الإيرادات مضمونة من قِبل عملاء مرموقين يتمتعون بسمعة قوية، يمكن للمطور الرقمي الحصول على التمويل بأسعار فائدة تفضيلية. فالمؤسسات المالية ترى في هذه العقود ضمانات مالية قوية، مما يقلل المخاطر ويُتيح شروط اقتراض أكثر جاذبية. في هذا النموذج، تُعد وحدات معالجة الرسوميات (GPUs) أصولاً تدعم عمليات الشركة ونموها، لكنها لا تُستخدم كضمان مباشر للتمويل. بدلاً من ذلك، تعتبر تلك الوحدات جزء من البنية التحتية الأساسية التي تُمكّن من توليد الإيرادات عبر خدمات الحوسبة أو عقود معالجة البيانات. ومن اللافت أن تمويل جزء من النفقات الرأسمالية الأولية مباشرة من الميزانية العمومية الخاصة للمطور الرقمي يُعد أمراً بالغ الأهمية من الناحية الاستراتيجية، لا سيما عند التعامل مع عملاء رفيعي المستوى مثل صندوق الثروة السيادي السعودي. يعزز هذا الالتزام الثقة، وهو أمر بالغ الأهمية عند التعامل مع عملاء مرموقين يتوقعون تسليماً مضموناً واستقراراً مالياً. أيضاً، عندما يُموّل المطور جزءاً من المشروع مقدماً، يمكنه التفاوض مع هؤلاء العملاء على شروط تعاقدية أكثر تفضيلاً، خاصة فيما يتعلق بامتيازات الوصول إلى الموارد والإعفاءات الضريبية. كما يتيح تمويل النفقات الرأسمالية ذاتياً للمطور في البداية تسريع الجداول الزمنية للمشروع، إذ لا يعتمد فقط على التمويل الخارجي الذي قد يستلزم موافقات تستغرق وقتاً طويلاً للحصول عليها أو يكون رهناً بظروف السوق. نختتم هذا التحليل بقصة قصيرة مستوحاة من دليل هندسي أصدرته شركة آي بي إم (IBM) في ستينيات القرن الماضي، ويتألف من 213 صفحة. يوضح الدليل الإجراءات التي اتخذتها عملاقة التقنية لتطوير حاسوب واحد آنذاك. كان جهداً هائلاً في حقبة كان فيها المهندسون يخططون بدقة لكل تفصيلة للتحكم في الاهتزازات وتنظيم درجة الحرارة وتثبيت الرطوبة، مستخدمين تقنية تعتبر بدائية بمقاييس اليوم. وكان ما حققوه بمثابة أعجوبة تقنية في ذلك الوقت. أما اليوم، في عام 2025، فقد تحولت مراكز البيانات إلى محركات عملاقة تُغذي الاقتصاد الرقمي وتُشغّل الذكاء الصناعي وتُخزّن بيانات العالم. بالتأكيد، لم تعد مجرد غرفة ضخمة مليئة بأرفف الخوادم كما يعتقد الكثيرون. وإذا كان حاسوب بسيط قد تطلب تخطيطاً مضنياً مفصلاً في 213 صفحة، فكم يلزم من الجهد والموارد والمعرفة لشرح بناء هذه الكيانات الرقمية الهائلة التي تُشكّل القلب النابض لعصر التقنية في عالمنا اليوم؟
لذا، في المرة القادمة التي تفكر فيها أن مركز البيانات مجرد مبنى لحفظ الخوادم في فناء شركتك الخلفي، فكّر ملياً! |
|
|
|
Argaam.com حقوق النشر والتأليف © 2025، أرقام الاستثمارية , جميع الحقوق محفوظة |