|
يُعد التمويل بالاستدانة ممارسة راسخة وسمة غالبة في مشهد التطوير العقاري، إذ تتطلب المشاريع العقارية في مراحلها الأولية تخصيص رؤوس أموال ضخمة سابقة لأي تدفقات نقدية مستدامة. وقد لفتت أزمة الدَّين التي عصفت بمجموعة إيفرجراند، والتي كانت في وقت من الأوقات أكبر مطور عقاري في الصين، كما سُنوضح في الجزء الأخير من هذا التحليل، الانتباه إلى الأهمية البالغة للإدارة الحكيمة والواعية لاستراتيجيات التمويل بالاستدانة في القطاع العقاري بمنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي. لذا، يُعد الإلمام بالمعايير المالية الأساسية المفصح عنها لقياسه لدى المطورين العقاريين أمراً مهما لاستجلاء الوضع المالي في هذه الزاوية تحديدا. وفي إطار تحليلنا، اخترنا أربع من كبريات شركات التطوير العقاري البارزة في السعودية والإمارات ومصر وقطر، وهي أسواق يلعب فيها القطاع العقاري دوراً محورياً في تحفيز النمو الاقتصادي وتعزيز الاستقرار المالي، للوقوف على الصورة العامة لقياس الدين لدى كل منها وكيفية إدارتها لمعادلة الدين والعائد في القطاع العقاري، الذي يتسم في أي دولة ومكان في العالم بتقلبات دورية. ومن المهم التنويه أننا لا نهدف إلى تقديم تحليل مالي مفصل عن أداء هذه الشركة أو تلك، بل اكتفينا برصد معايير محددة وهامة في الميزانيات العامة المعلنة، واضعين نصب أعيننا أزمة إيفر جراند الصينية التي ما زالت فصولها لم تكتمل بعد إلى وقت كتابة هذه التحليل في 4 ديسمبر 2025. يكتسب هذا النمط التمويلي أهمية استثنائية في بيئة الأعمال العقارية، حيث تقتضي طبيعة المشروعات التوسعية تخصيص نفقات رأسمالية ضخمة مقدّمة لشراء الأراضي وإعداد التصميمات الهندسية وبدء الإنشاءات وبلورة الحملات التسويقية، كل ذلك قبل توليد أي إيرادات. كما أن الديون تُعد، في كثير من الأحيان، أقل كلفة مقارنةً بمنح حقوق الملكية للحصول على التمويلات المطلوبة لاستدامة المشروعات العقارية. يعود ذلك إلى إمكانية مساهمة فوائد هذه الديون في خفض الدخل الخاضع للضريبة باعتبارها نفقات قابلة للخصم من الوعاء الضريبي، وفقاً لممارسات تمويل الشركات. (دورية بحوث الملكية العقارية) وعندما تلجأ الشركات إلى الاستدانة، تلتزم بسداد فوائد دورية للمُقرضين. لكن بخلاف حصص الأرباح التي تُدفع للمساهمين من صافي الأرباح بعد استقطاع الضرائب، تُدرج مدفوعات الفائدة على الدين ضمن المصروفات التشغيلية، ويمكن خصمها من الدخل الخاضع للضريبة. بالتالي، تخفض الشركة أرباحها الخاضعة للضرائب بمقدار الفوائد المُسددة، ما ينعكس مباشرةً على كلفة التمويل الإجمالية ويُعد ميزة مهمة ضمن هيكلة رأس المال. وبالطبع، تلتزم الشركات التي تعتمد هذا النمط التمويلي بسداد قدر أقل من ضريبة الدخل للحكومات نظراَ لتقليص أوعيتها الضريبية. غير أن هذه الاستفادة تأتي مع مخاطر موازية، فالقطاع العقاري بطبيعته قطاع دوري شديد التقلّب، إذ تتأثر عوائده المستقبلية بمجموعة من العوامل الاقتصادية والتنظيمية بدايةً من أسعار الفائدة وتقلبات الطلب، إلى متغيرات الاقتصاد الكلي على الصعيدين المحلي والعالمي. (الحد من المخاطر في قطاع التطوير العقاري) 🔎 نظرة معمّقة على أربعة من أبرز مطوّري العقارات في الشرق الأوسط يكشف تحليل المؤشرات الرئيسية للأداء المالي خلال العامين 2023 و2024 عن اعتماد هؤلاء المطورين الكبار هياكل تمويل أكثر تحفظاً، وشديدة الانضباط. ![]() دار الأركان فقد سجّلت شركة دار الأركان السعودية نسبة دين إلى حقوق ملكية بلغت 0.23 في 2023، والتي تراجعت إلى0.22 في عام 2024. (وفقاً للتقرير السنوي ص 131) وتعكس النسبة التي حققتها مطورة العقارات السعودية الرائدة في 2024 أنه مقابل كل ريال من حقوق الملكية تتحمل دار الأركان ديناً صافياً قدره 0.22 ريال، وهو ما يشير إلى مستوى منخفض من الرفع المالي (استخدام الديون للتمويل) ويؤكد في الوقت ذاته على تبنّي الشركة هيكلاً مالياً متحفظاً يعتمد بدرجة أكبر على حقوق الملكية مقارنةً بالاقتراض. تُظهر هذه المؤشرات أن نمو حقوق الملكية قد تجاوز نمو صافي الدين، ما أسهم في تحسين مستوى الرافعة المالية لدى دار الأركان. وبحسب الميزانية العمومية للعام 2024، فإن ارتفاع مستويات النقد وما يعادله (قيمة الأموال النقدية المتاحة للشركة والتي يمكن تحويلها إلى نقد بشكل فوري أو في فترة قصيرة) من 5.45 مليار ريال إلى 6.72 مليار ريال يعزّز مستوى السيولة، ويخفف في الوقت نفسه من أي مخاوف متعلقة بارتفاع المديونية. وعلى صعيد الربحية، فقد بلغ صافي الأرباح نحو 610.8 مليون ريال في 2023، ليرتفع إلى 807.8 مليون ريال في 2024، ما يعكس زيادة ملحوظة في صافي الأرباح تُقدّر بنحو 32.10% سنوياً بين عامي 2023 و2024. ![]() ![]() مجموعة طلعت مصطفى في مصر، بلغت نسبة الدين إلى حقوق الملكية لدى مجموعة طلعت مصطفى القابضة في 2024 ما يعادل 1 إلى 7.9. (إفصاح الأرباح عن العام المالي 2024 ص 4) ويعني ذلك أن المجموعة لديها ما قيمته 7.9 جنيه من حقوق الملكية مقابل كل جنيه مُقترض. بعبارة أخرى، فإن نسبة الدين إلى حقوق الملكية تبلغ تقريباً 0.127 (1 مقسوماً على 7.9)، وهو مستوى منخفض للغاية يعكس هيكلاً مالياً متحفظاً. كما سجّلت السيولة النقدية وما في حكمها قفزة كبيرة ليرتفع رصيدها من 8.1 مليار جنيه في 2023 إلى 44.9 مليار جنيه في 2024، وهو ما يعكس تحسّناً كبيراً في مستوي السيولة لدى عملاقة التطوير العقاري المصرية. وفيما يتعلق بنمو الربحية، فقد بلغ صافي أرباح مجموعة طلعت مصطفى نحو 10.7 مليار جنيه في 2024، أي أكثر من ضعف صافي الأرباح المسجل في 2023 والبالغ 3.3 مليار جنيه، ما يعكس نمواً استثنائياً قدره 224% سنوياً. ![]() "إعمار العقارية" وفي الإمارات، تراجعت نسبة الدين إلى حقوق الملكية لدى إعمار العقارية من نحو 0.14 في 2023 إلى قرابة 0.10 في 2024. (التقرير السنوي لعام 2024) ويعكس هذا الانخفاض تراجع مستوى الرفع المالي وتعزيز مركز حقوق الملكية. كما رفعت الشركة رصيد النقد وما يعادله بنحو 13 مليار درهم، بزيادة تقارب 51% بين عامي 2023 و2024، وهو ما يشير إلى تحسّن ملموس في السيولة وقوة مركزها النقدي. أما صافي أرباح إعمار العقارية، فشهد ارتفاعاً بنسبة تقارب 18% سنوياً بين عامي 2023 و2024، وهو ما يؤكد قوة الأداء المالي للشركة واستمرار قدرتها على تحقيق نمو مستدام. ![]() ![]() كما أظهرت نتائجها المالية انخفاضاً ملحوظاً في مستويات النقد وما يعادله بنحو 577 مليون ريال خلال 2024، وهو تراجع يعكس استخدام السيولة لتلبية الاحتياجات التشغيلية والإنفاق الرأسمالي وخدمة الدين. أما صافي الربح، فقارب 427.108 مليون ريال قطري في 2024، مقارنةً بنحو 401.720 مليون ريال في 2023، بما يمثل نموّاً يقارب %6 سنوياً. ![]() ![]() هذه الدراسة صادرة عن وحدة أرقام³ إنتليجنس، وتهدف إلى تحليل تحولات قطاع الإسكان السعودي من منظور السياسات العامة، والتمويل، والاستدامة الاجتماعية. يقع قطاع العقارات في المملكة العربية السعودية في القلب من رؤية 2030. وتشير خطة المشاريع العقارية والبِنية التحتية الهائلة والمستمرة إلى أن المملكة قد انتقلت بالفعل من مرحلة الرؤية إلى مرحلة التنفيذ، وعبر آليات تمويلية مستدامة، تراعي متطلبات المجتمع، والمعايير العالمية للحوكمة والبيئة، مما يوفر ثقة للمطورين والمستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء. اضغط هنا للاطلاع على التقرير الاقتصادي الكامل درس من "إيفرجراند" الصينية نسلط الضوء في الجزء الأخير من تحليلنا على دراسة حالة لشركة صينية ما زالت تتصدر العناوين منذ أكثر من خمس سنوات بسبب أزمة ديونها وما ترتب عليها من تداعيات واسعة على قطاع العقارات. كانت مجموعة تشاينا إيفرجراند قد واجهت أزمة ديون خانقة، والتي عصفت بها كنتيجة حتمية لتبني سياسات توسعية طموحة لتحقيق أرباح ضخمة، وهي مغامرة استثمارية اعتمدت فيها عملاقة التطوير العقاري الصينية بشكل رئيسي على الاقتراض لتمويل عملياتها بدلاً من رأسمالها الخاص أو بيع الأسهم، ما أدى بدوره إلى اختلال غير قابل للاستدامة بين الأصول والخصوم. وفي أغسطس 2025، شُطبت مجموعة تشاينا إيفرجراند من بورصة هونغ كونغ للأوراق المالية، لتصبح أسهمها فعلياً دون قيمة، في محطة اعتُبرت من أكثر اللحظات قتامة لقطاع العقارات في البلاد. (رويترز، أغسطس 2025) اعتمدت الشركة بشكل كبير على ديون قصيرة الأجل ومرتفعة الفائدة لتمويل مشاريع عقارية طويلة الأجل، فيما استنزفت مخزوناتها الضخمة واستثماراتها المتنوعة قدراً كبيراً من رأس المال دون توليد تدفقات نقدية كافية. (جامعة تشيجيانغ للتمويل والاقتصاد) ومنذ تأسيسها في عام 1996، كان توسع إيفرجراند السريع مدفوعاً بالاقتراض المفرط. وقد شكّل انهيارها أكبر أزمة في قطاع العقارات الصيني، حيث أدى إلى إبطاء النمو الاقتصادي للبلاد وسقوط عدد قياسي من شركات التطوير المتعثرة. (بلومبيرج 2021) ![]() بنهاية 2021، باتت إيفرجراند الأكثر مديونية بين أقرانها، الذي ما زالوا يعانون من نفس مشكلة الدين إلى الآن بسبب التسهيلات الكبيرة التي كانت تقدمها السياسة النقدية الرسمية، حيث تضخم إجمالي التزاماتها ليصبح 360 مليار دولار تقريباً. واعتبرت الشركة أكبر مطوري العقارات في البلاد من حيث المبيعات المتعاقد عليها لفترة من الوقت، حيث تخطت قيمتها السوقية 50 مليار دولار في 2017 في أوج ازدهارها. بل اتجهت الشركة إلى تنويع أنشطتها، فاستثمرت في صناعة المركبات الكهربائية واشترت نادي كرة قدم محلّي ضمن استراتيجية توسّع اتسمت بالجرأة والطموح الشديدين. غير أن المشهد تغيّر جذرياً في 2020، حين شنت بكين حملة صارمة لإحكام السيطرة على القطاع العقاري، حيث شددت الإجراءات الجديدة قيود الاقتراض وحجمت قدرة المطوّرين على الاستدانة، الأمر الذي أدى فعلياً إلى قطع شريان الحياة الممتد من أسواق الائتمان عن عملاقة التطوير العقاري الصينية لتختل قدرتها على استدامة تمويل نشاطاتها الاستثمارية. وفي أعقاب محاولات إعادة الهيكلة الفاشلة، صدر أمر قضائي بحل وتصفية إيفرجراند على خلفية عجزها عن سداد ديونها في 2024. لقد كان الهوس العقاري في الصين مدفوعاً في جوهره بالديون، إذ سارعت شركات التطوير خلال العقد الماضي إلى بناء المزيد من المشروعات لتلبية طلب مستقبلي متوقَّع. وقد غذّى هذا الواقع موجة واسعة من الشراء المضاربي، حيث بيعت الوحدات على الخريطة قبل اكتمالها، فيما اعتمد المطوّرون بشكل متزايد على المستثمرين الأجانب لتأمين التمويل. أدّت هذه المضاربات إلى ارتفاعات فلكية في الأسعار. وتحت وطأة الاختلالات، بلغت الديون المتعثّرة لدى البنوك الصينية، أي القروض التي لم تعد تتوقع استردادها، مستوى قياسياً وصل إلى 3.5 تريليون يوان (492 مليار دولار) بنهاية سبتمبر الماضي. ومن جانبها، حذّرت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني من احتمال تدهور الوضع بشكل أكبر في 2026 مع تعثّر مزيد من الأسر وتراجع قدرتهم على سداد الرهون العقارية والقروض الأخرى. (منصة تشاينا أوبزرفر) |
|
|
Argaam.com حقوق النشر والتأليف © 2025، أرقام الاستثمارية , جميع الحقوق محفوظة |